باحثة تونسية تكشف الزيف الاستعماري في قصة «الرقص الشرقي»
باحثة تونسية تكشف الزيف الاستعماري في قصة «الرقص الشرقي»
كان كل شيء مهيئاً من أجل خدمة عهود أطول من الاستعمار. في نهايات القرن التاسع عشر، حين كان بورجوازيو الغرب الحاملين لألقاب “الدوق” و”البارون” و”السيد”، والمعلنين عن أنفسهم بوظائف من بينها “جامع التحف” و”الرحالة” و”الرسام” و”المهندس”، يعبّرون عن الافتتان بـ”سحر الشرق”، تبدى أنه يبذلون جهودا مضنية في إيجاد طرق لإشباع ذلك الافتتان!
ذلك التوق الغامض إلى امتلاك روح اثنية بعيدة عنهم، وتلبية شبق الاستحواذ عبر تنميط الآخر. إنه شعور يخلط (بوعي غالبا) بين السعي إلى الجمال وبين امتلاكه، عبر احتكار الحق بـ”تمثيله” وادعاء فهم جوانبه “الجرائبية”.
بكلام آخر، كان ذلك الافتتان، استعماراً، تقنّع بوجه الهوس الاستشراقي.
لم يتوقف الأمر بطبيعة الحال عند حب الزخارف الهندسية والأنماط المعمارية، ولا الضوء الدافئ والسماء المتوسطية او الخصوبة النيلية، بل تعداه الى اختراع صور وإشاعتها عن الفنون الشرقية، واختزالها وتحويرها عن سياقها الأشمل.
هكذا فعل، على سبيل المثال، الكونت الفرنسي “ألفونس دو غيلون” (1843-1899) حين قرر أن يبني ضمن “معرض باريس العالمي 1889” (نواة معارض إكسبو الدولية) شارعا أسماه “نهج القاهرة”، لم ينس في فورة تزيينه بالمآذن والأبواب المزخرفة، أن يشحن اليه أيضا مئات الحمير وراكبيها، والكثير من سقائي القهوة التركية، وبطبيعة الحال.. راقصات هز البطن.
إعادة نبش الوثائق
من المغرب إلى اليمن، ومن القدس الى سواحل سيناء، لطالما تلون الشرق بآلاف الحركات الشعبية الراقصة، التي تختلف، لا بين بلد وآخر فحسب، بل ربما بين قرية وأخرى، وحاضرة وأخرى.
لكن الهدف الاستشراقي، اختزل ذلك الثراء كله، وبحسية لا تخفى على أحد في عصور شاع فيها نشر روايات بلغ بعضها حد الأسطرة عن “الشبق الحسي” لدى رجال الشرق وحتى نسائه.. اختزل غنى الرقص برقصة واحدة هي “هز البطن” وبطيف واحد نادر من تلك الرقصة هي “تعرية البطن”:” لقد بحثت كثيراً. غصت في آلاف الوثائق من الأرشيف لشهور طوال. قرأت إدوارد سعيد وكثر غيره.
تفرجت على لوحات وزرت متاحف وتوصلت الى خلاصة أكيدة: منبع الرقص الشرقي المسوق بهز البطن العاري هو تخييل وترويج استشراقي ولا يعبر حصراً عن هذا الفن في تاريخنا”، تقول الباحثة التونسية مريم قلوز، التي حققت رسالتها العلمية وأبحاثها في هذا المجال، في حديث إلى “البيان”،
وتضيف:” من هنا جاءت فكرة عرضي “نهج القاهرة” الذي يعود إلى تلك الفترة والحادثة من أجل سرد حقائق مجهولنا عن تاريخنا من خلال الرقص ووسائط أخرى استخدمت في العرض”.
كرامة جسد الراقص.
عرض “نهج القاهرة” في فرنسا ذاتها، وكذلك في بروكسل، وتعمل صاحبته على تطويره وتعريب محتواه لكي يكون جاهزا في المستقبل لعروضات التونسية والعربية. ويتصل جهد قلوز برؤيتها الشاملة ودفاعها عن “كرامة جسد الرقص” وعدم تحويله الى أداة لخدمة أغراض بعيدة عن الفن، وهو الشعار ذاته الذي حمّلته لواحدة من الدورات الثلاثة التي رأستها لـ” مهرجان الرقص الكوريغرافي” الذي يحتفل بدورته الرابعة هذا الأسبوع في العاصمة التونسية.
تقول:” اليوم، لا يمكننا بطبيعية الحال أن نقبل بممارسات شبيهة. صار الوعي أكبر في كل مكان. لن يرضى أحد بجلب راقصات ووضعهن في مجال للفرجة الى جانب حيوانات، من أجل الترفيه، كما حصل في فرنسا في نهج القاهرة. كان ذلك اختصاراً واضحاً للقيمة الاجتماعية للرقص وإخراجها من سياقها التعددي والمتنوع ثقافياً وجندرياً، وتجسيدها برؤية استعمارية”، وتكشف:” على سبيل المثال، فكلمة balley dance هي كلمة الفرنسية بالأصل، أوّل ما برزت كانت في أواخر القرن 19، وحاولت الصحافة المصريّة ترجمتها لـ”رقص البطن”، وكانت ترجمة رصينة ولكنها لم تكن دقيقة”.
وبعد مرور أكثر من 130 عاما على تلك الحقبة، لا تزال النظرة الى الرقص في الكثير من المناطق التي خضعت لاستعمار أوروبي، متأثرة بالترويج الاستشراقي، ناهيك عن التيارات الدينية المحافظة التي تقف على مسافة حذرة من التعبير الفني الإنساني باستخدام الجسد، رغم شيوع كبير لثقافة الرقص في المناسبات السعيدة والأفراح. وتسعى “أيام قرطاج الكوريجرافية” التي صاحبت مريم قلوز تأسيسها وعملت على ترسيخ رسائلها بجد وعزيمة على تغيير تلك النظرة
وجذب أكبر قدر من الجمهور إلى الصالات من أجل فهم الرقص وتقديره بوصفه ثقافة “ترقي الروح وتنمي تبادل الطاقات والأفكار”.