
الأول من يوليو 2025، الذكرى الـ98 لميلاد رفعت علي سليمان الجمال، المعروف في الأوساط الاستخباراتية باسم رأفت الهجان، أشهر عميل مصري اخترق إسرائيل من الداخل تحت غطاء رجل أعمال يهودي يحمل اسم “جاك بيتون”، وبينما تحتفي مصر سنويًا بهذا الاسم الذي أصبح مرادفًا للدهاء والبطولة، لم تغب سيرته عن الصحف الأجنبية التي ما زالت تحلل دوره، وتتتبع تأثيره داخل بنية القرار الإسرائيلي خلال ما يقرب من عقدين كاملين.
البدايات… من دمياط إلى دهاليز الاستخبارات
ولد رفعت الجمال في دمياط في 1 يوليو 1927، ونشأ في أسرة متوسطة قبل أن ينتقل إلى القاهرة، حيث خاض تجارب عديدة ما بين التجارة والسفر والتنقل، ثم وجد نفسه مطرودًا من مصر بسبب نشاطه في السوق السوداء، فبدأت رحلته خارج البلاد، في ألمانيا تم تجنيده لصالح جهاز المخابرات العامة المصرية في منتصف الخمسينيات، ليبدأ فصلًا جديدًا من حياته، لا كرفعت الجمال بل كـ”جاك بيتون”، اليهودي الثري الذي استقر في إسرائيل، وعمل في السياحة والتجارة، بينما ينقل أهم أسرار الدولة العبرية إلى القاهرة.
كيف تناولت الصحف الأجنبية سيرة الجاسوس المصري؟
في تقرير نشره موقع Middle East Eye البريطاني، وصف رفعت الجمال بأنه “المواطن الذي تحول إلى أسطورة”، وأشار التقرير إلى أنه استطاع أن يخدع إسرائيل لمدة 17 عامًا، من خلال تغلغل ذكي في المجتمع السياسي والاقتصادي الإسرائيلي، حيث أصبح مقربًا من شخصيات سياسية رفيعة، وكان يستشار في ملفات ذات طبيعة استراتيجية.
الموقع ذاته نقل عن مصادر غربية أن الجمال لعب دورًا محوريًا في تسريب معلومات حيوية قبيل حرب أكتوبر 1973، ساهمت في قلب موازين الحرب لصالح مصر، منها خرائط خط بارليف، وخطط الانتشار العسكري على جبهة قناة السويس.
أما صحيفة Jerusalem Post، فقد نشرت في عدد سابق لها مقالة بعنوان: “العميل الذي دخل من الباب الأمامي”، واعتبرت أن رفعت الجمال كان من أذكى الاختراقات الاستخباراتية التي واجهتها إسرائيل في القرن العشرين، حيث لم يترك أي أثر يثبت هويته الحقيقية، حتى وفاته في ألمانيا عام 1982، وقد نقلت الصحيفة عن مسؤولين سابقين في الموساد أن الجمال شكل “لغزًا استخباراتيًا”، إذ لم تستطع أجهزة الأمن الإسرائيلية كشفه طوال فترة نشاطه.
من جانبها، علقت صحيفة Haaretz العبرية بأن “الهجان لم يكن عميلًا مزدوجًا كما تروج بعض الروايات، بل كان اختراقًا صامتًا ومؤلمًا” للموساد، وأضافت أن علاقاته الواسعة كانت مصدر قلق للدوائر العليا، خاصة بعد حرب 1973 التي كانت إحدى أهم الضربات الاستخباراتية التي تلقتها إسرائيل في تاريخها.
الرواية المصرية.. من الوثائق إلى الدراما
الجانب المصري احتفى بالجمال منذ سنوات، سواء من خلال الوثائق الرسمية التي تم الإفراج عنها، أو من خلال مسلسل “رأفت الهجان” الذي قام ببطولته الفنان الراحل محمود عبد العزيز، والذي جسد تفاصيل مهمته في ثلاثية درامية عابرة للأجيال، لا تزال محفورة في الذاكرة الشعبية.
في تغطيتها الأخيرة للذكرى، نشرت صحيفة الشروق المصرية تحقيقا موسعا عن سيرة رفعت الجمال، وأكدت فيه أن المعلومات التي كان يمد بها المخابرات العامة المصرية، ساعدت القيادة العسكرية والسياسية على اتخاذ قرارات حاسمة، خصوصًا في توقيتات الحروب وأماكن الثغرات في الدفاعات الإسرائيلية.
كما أشارت صحيفة Egypt Telegraph إلى أن الجمال – الذي دفن في مدينة دارمشتات الألمانية – عاش حياة مزدوجة بحرفية نادرة، وتمكن من تأسيس شركة سياحية حقيقية في تل أبيب، استخدمها كغطاء لنقل معلومات، بعضها وصفه ضباط المخابرات المصرية لاحقًا بأنه “لا يقدر بثمن”.
شهادات دولية: “ليس خيالا دراميًا”
المفارقة التي تكررها الصحافة الغربية هي أن قصة رفعت الجمال أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، إلا أن الدلائل والوثائق وشهادات ضباط مخابرات سابقين – من مصر وإسرائيل – تؤكد أن الأمر لم يكن سيناريو لمسلسل، بل واقعًا حيًا دام 17 عامًا.
اللافت أن الجمال لم يتورط في اغتيالات أو أعمال عنف، بل كانت مهمته تحليل المجتمع الإسرائيلي من الداخل، والتغلغل في مراكزه الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما دفع وسائل الإعلام الغربية لوصفه بأنه “عميل ناعم”، يقتل بالمعلومة لا بالسلاح.
بعد وفاته، كتبت صحيفة The Guardian البريطانية في تقرير نشر عام 1993 أن “رفعت الجمال ساهم في تغيير نظرة العالم إلى قوة المخابرات المصرية، وكان أحد أسباب احترام مصر دوليًا في مجالات الأمن والمعلومات”.
ويذكر أن الجمال عاش حياته بعد انتهاء مهمته في هدوء، بعيدًا عن الأضواء، ولم يعلن عن وفاته إلا بعد مرور أكثر من عام، ليبقى الغموض يكتنف أيامه الأخيرة كما اكتنف أيامه الأولى في إسرائيل.
في ذكرى ميلاده.. ماذا تبقى من الهجان؟
في عالم تحكمه التكنولوجيا، والحروب المعلوماتية، تبقى سيرة “رفعت الجمال” واحدة من النماذج الإنسانية التي تدرس في مدارس الجاسوسية، ليس فقط في مصر، بل في كبريات الأكاديميات العالمية، هو رجل لم يكن بطلًا سينمائيًا، بل إنسانًا آمن أن حب الوطن قد يتطلب حياة لا تشبه حياة البشر العاديين.
وها هي الذكرى الـ98 لميلاده تمر، بينما لا يزال اسمه يتلى باحترام على ضفتي نهر النيل، وفي أرشيف الصحافة الأجنبية، كمثال نادر لجاسوس انتصر بدون طلقة واحدة، بل بعقل لا ينام، وقلب لم يخن.