تمثل أزمة أوكرانيا مفترق طرق أمام حلف الناتو، وفرصة لإظهار فعاليته، وتأكيد أهمية دوره، بما يعيد للواجهة تساؤلات حول مستقبل الحلف على المديين القصير والمتوسط. مراقبون يعتقدون بأن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على مستقبل الحلف، في ظل أزمة لا تزال متفاعلة، بينما السياق العام يشير إلى تفاؤل غربي بخصوص «عودة الزخم» في اختبار قوته ونفوذه، يعزز ذلك تمسك الرئيس الأمريكي جو بايدن بالحلف ودوره المهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
«أهمية حلف الناتو حيوية بالنسبة لقدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن نفسها»، هذا ما أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن، في أكثر من مناسبة، بخصوص حلف الناتو، ونظرة الولايات المتحدة إلى دوره الجوهري، ذلك على الرغم من التحديات التي يواجهها الحلف منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وحل حلف وارسو
الحلف الذي تشكل في البداية في مواجهة «الخطر الشيوعي» في ظل مخاوف من تمدد «الكتلة السوفييتية»، عمل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي على استراتيجيات وعمليات استباقية خارج مناطق نفوذه الأساسية، انطلاقاً من دوره الرئيسي فيما يتعلق بالأمن الأوروبي، وبمبرر أن ما يحدث داخل أو خارج أوروبا قد يؤثر على مصالح الدول الأعضاء وأمنهم.
ومن هذا المنطلق كان نشاط الحلف كأقوى تحالف دفاعي إقليمي حول العالم، وعملياته في نطاقات مختلفة، تحت عنوان حماية أمن الدول الأعضاء، فيما لم يلغِ ذلك النشاط الاعتقاد السائد بأن «الناتو» فقد مبرر وجوده بسقوط «عدوه الأول» وأصيب بالشيخوخة أو «الموت الدماغي»، في ظل عديد من الشواهد، من بينها ملف الإنفاق الدفاعي من الدول الأعضاء على الحلف، وما يواجهه من إشكاليات، فضلاً عن عدم توحّد الدول الأعضاء في كثيرٍ من الملفات الأساسية، وهو على ما يبدو ما راهن عليه الروس في عمليتهم العسكرية في أوكرانيا.
مثّلت أزمة أوكرانيا مفترق طرق أمام الناتو وفرصة لإظهار فعاليته والتأكيد على أهمية دوره بالنسبة للدول الأعضاء، بما أعاد للواجهة تساؤلات حول مستقبل الحلف على المديين القصير والمتوسط، وما إن كانت الدول الأعضاء قادرة على المواجهة تحت مظلته الأساسية وأهدافه التي بني عليها من عدمه.
على المدى القصير، يعتقد مراقبون بأن الوقت ما زال مبكراً للحكم على مستقبل الحلف – الماضي في سياسة التوسع شرقاً – في ظل أزمة لا تزال تعتمل تفاصيلها وتتسارع، بينما السياق العام يشير إلى تفاؤل غربي بخصوص «عودة الزخم» في اختبار قوة ونفوذ الحلف، يعزز ذلك تمسك الرئيس الأمريكي جو بايدن بالحلف ودوره المهم بالنسبة لأمن الولايات المتحدة، على خلاف سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب وتهديداته بالانسحاب من «الناتو».
تطوير الحلف
«بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحل حلف وارسو كان «الناتو» يواجه معضلة أساسية، وشكوكاً حول جدوى استمراريته، على أساس أنه تأسس كحلف مواجه للسوفييت، وكانت ألمانيا نفسها من الدول التي دعت بعد ذلك إلى حل الحلف وتفكيكه، لكن الولايات المتحدة نجحت في إيجاد مفاهيم استراتيجية للحلف، تمكنت من خلالها من العمل على مناطق وقضايا جديدة تجمع دول الناتو».
هذا ما يشير إليه خبير العلاقات الدولية أكرم حسام، والذي يعتقد أن «أزمة أوكرانيا الأخيرة أعادت بشكل أو بآخر التأكيد على أهمية الحلف وضرورة بقائه».
«كان من بين الأهداف الاستراتيجية في التعامل مع تلك الأزمة استعادة الحلف للزخم من جديد، والتأكيد على أهميته، لا سيما أنه خلال العقد الماضي اقتصر دوره على عمليات خارج أوروبا بعدما حدثت تغيرات في بعض المفاهيم الاستراتيجية الخاصة به».
ويتابع حسام قائلاً: «خلال العقدين الماضيين لعب الناتو دوراً في قضايا مختلفة بعيداً عن مناطق نفوذه التقليدية بشكل مباشر، والقضية الأساسية للحلف، بينما جاءت الأزمة في أوكرانيا لتعيده إلى أوروبا، وتعيد الزخم إليه، كما تُغير كثيراً من المفاهيم والمواقف التي كان الناتو متردداً في اتخاذها باتجاه تطوير دوره وزيادة توسيع قدراته».
يأتي ذلك التطوير مع قيام الدول الأعضاء بالحلف بتطوير قدراتها أيضاً، وهو ما يشير إليه خبير العلاقات الدولية، والذي يلفت إلى ما أعلنت عنه ألمانيا أخيراً بخصوص اتجاهها لزيادة الإنفاق العسكري بأكثر من 2 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي، لتصل إلى 100 مليار يورو.
ويتابع: «هذه الخطوة ستتبعها خطوات مماثلة من دول أوروبية أخرى على رأسها فرنسا، وهي خطوة تصب في تعزيز قدرات الحلف الإجمالية بناءً على عناصر القوة المشتركة للحلف، وبما يعطيه مساحة كبيرة للحركة».
اختبار وجود
التطورات الأخيرة التي يشهدها العالم تضع «الناتو» أمام اختبار وجود، للخروج من حالة «الموت الدماغي» التي وصمه بها كل من الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والنمساوي ألكسندر فان دير بيلن، في وقت سابق، عندما اتفقا على توصيف الحلف بالميت دماغياً في إشارة لتراجع دوره، خصوصاً في ظل صعوبة التوصل إلى إجماع بشأن عديد من القضايا المختلفة.
هذه الصعوبة ظهرت بشكل واضح في بداية الأزمة في أوكرانيا، قبل العملية العسكرية الروسية، وعندما فشل الحلف في المساهمة في تجنب سيناريو التصعيد، كما ظهرت في الأيام الأولى للاجتياح مع التخبط النسبي الذي شهدته مواقف الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا، قبل أن يعدل المسار نسبياً بشأن أساليب مواجهة روسيا والعقوبات المفروضة عليها ودعم أوكرانيا.
يعتقد الأكاديمي الأمريكي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاملتون في نيويورك، آلان كافروني، بأن أزمة أوكرانيا الأخيرة «بعثت حياة جديدة للناتو».
يشير كافروني . إلى أنه «من وجهة نظر روسيا، مثّل توسع الناتو الذي لا هوادة فيه باتجاه الشرق تحدياً كبيراً لأمنها، حتى في وقت كان الناتو يعاني من حالة من الفوضى وكانت احتمالات انضمام أوكرانيا إلى العضوية محدودة للغاية».
ومع ذلك فقد «بعثت العملية العسكرية الروسية حياة جديدة في الحلف، وساعد على ترسيخ القيادة الأمريكية أكثر من ذلك، على المدى القصير على الأقل (..) لقد دانت المجر والتشيك موسكو.. وحتى مع وضع روسيا لقواتها النووية في حالة تأهب قصوى، فقد أعلنت ألمانيا عن إعادة تسليح واسعة النطاق، وتفكر فنلندا والسويد في العضوية».
تعكس كل هذه العوامل التي كشفت عنها الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، طبقاً لتحليل أستاذ العلاقات الدولية، حياة جديدة لـ«الناتو» ولو على المدى المنظور.
أمن أوروبا
يغطي «الناتو» منطقة تقع في قلب جملة من التحديات العالمية المتصاعدة، ويتعلق مستقبله بكثير من المتغيرات التي قد تطرأ على خارطة التوازنات الجيوسياسية، في خطٍ متوازٍ مع القوى المتنامية، لا سيما للصين، وكذلك تصاعد التهديد الروسي.
وبدوره، يقول المحلل الإيطالي بموقع «ديكود 39»، ماسيميليانو بوكوليني، إنه في التسعينيات وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان الاعتقاد سائداً بأن «الناتو» الذي تأسس في 1949 حلف قديم قد جاوزه الزمن، لكن «الآن نرى حقيقة أهمية دور الحلف، وكيف أنه ضروري بشكل كبير لحفظ أمن أوروبا وشمال أمريكا بشكل خاص، وهو ما عكسته أزمة أوكرانيا أخيراً».
ويردف بوكوليني: «أعتقد أن الناتو لم يفقد دوره الذي تأسس من أجله، وما حدث في أوكرانيا دليل على ذلك في الفترة الأخيرة (..) من دون هذا الحلف كان من الممكن أن تأتي الحرب حتى قلب أوروبا نفسها (..) لذلك على سبيل المثال أوكرانيا ودول أخرى تريد الانضمام، على أساس أن الحلف مشكل من بلدان ديمقراطية ومهم بالنسبة للشعوب التي تريد أن تعيش بحرية».
ويعتقد المحلل السياسي الإيطالي أن ثمة تغيرات «إيجابية» تنتظر «الناتو»، ترتبط أساساً بتعزيز مكانته ودوره وإعطائه أدواراً جديدة من قبل الدول الأعضاء، إضافة إلى احتمال دخول دول جديدة مثل فنلندا والسويد.