بعد تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أكثر من مناسبة منذ سنوات، حول أن أوكرانيا يمكن أن تفقد وضعيتها كدولة ذات سيادة بسبب تماديها في أعمالها العدوانية ضد جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، عاد نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، ليهدد أوكرانيا باحتمالات تقسيمها.
ولمزيد من الإيضاح، قال باتروشيف في حديث لصحيفة “روسيسكايا غازيتا” الروسية الرسمية، إن ما تمارسه الدول الغربية والقيادات الأوكرانية الخاضعة لها من سياسات “يمكن أن يؤدي إلى تفكك أوكرانيا إلى عدة دول”.
وكشفت التطورات الأخيرة للأحداث في منطقة دونباس ومقاطعات الجنوب الأوكراني عن أن ما حذر منه الرئيس بوتين منذ سنوات طوال بات قريباً من التحقق.
ويذكر المراقبون في داخل روسيا وخارجها، ما قاله حول أن استمرار تمسك كييف بمواقفها الرافضة حل الأزمة الناجمة عن الخلافات مع جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك “يهدد بأن تفقد أوكرانيا وضعيتها كدولة ذات سيادة”، وذلك ما تبدو عليه الأحداث الراهنة، وقد جنحت نحو تأكيد تحقيقه، على ضوء ما تشهده المنطقة من تطورات عاصفة في أعقاب سقوط ماريوبول، ومناطق ساحلية مطلة على البحرين آزوف والأسود، وترتبط برياً مع شبه جزيرة القرم.
وبينما يغرق العالم في خضم ما يتدفق من معلومات تقول بهزيمة فادحة للقوات الروسية في أوكرانيا، تتحدث المصادر الروسية بالصوت والصورة عن تطورات عاصفة تنذر بانهيار أوكرانيا واحتمالات تقسيمها.
تقسيم أوكرانيا
في هذا الصدد، نقلت وكالة “نوفوستي” الحكومية الروسية عن جيورجي مرادوف، نائب رئيس حكومة شبه جزيرة القرم، ما قاله حول أن “كييف تشعر بالذعر من احتمالات اندماج المناطق المحررة في جنوب أوكرانيا مع روسيا”.
وأشارت المصادر الروسية، وكذلك مصادر أوكرانية في مقاطعة “خيرسون” إلى أن “القوات الروسية نجحت في فرض سيطرتها خلال العملية الخاصة بنزع السلاح في أوكرانيا، على منطقة خيرسون بأكملها في جنوب البلاد”.
وكنا قد أشرنا في تقرير سابق من موسكو إلى سقوط مقاطعة خيرسون المطلة على البحر الأسود وإنزال الأعلام الأوكرانية من على الإدارات والمؤسسات الإدارية ورفع “راية النصر الحمراء”، في الوقت الذي بدأ فيه السكان يتداولون الروبل (العملة المحلية الروسية) إلى جانب العملة الأوكرانية. وأفادت المصادر الروسية ببدء استقبال المواطنين في هذه المناطق لإرسال القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية الروسية، إلى جانب تشكيل الأجهزة الإدارية العسكرية والمدنية.
إستقلال خيرسون
ثمة ما يشير إلى أن القوات الروسية في سبيلها إلى تنفيذ ما سبق وأعلنت عنه بعض المصادر في موسكو حول دعمها ميول وتوجهات كثيرين من الأوكرانيين وممثلي الأقوام الناطقة بالروسية في عديد من مقاطعات الجنوب الأوكراني حول عزمها إجراء استفتاء حول الانفصال عن أوكرانيا وإعلان استقلالها، تمهيداً للتقدم لاحقاً بطلب الانضمام إلى روسيا.
غير أن من الملاحظ أيضاً، بحسب إفادات شهود عيان، أن الخوف لا يزال يساور كثيرين من سكّان هذه المناطق، خشية عودة القوات الأوكرانية والقوميين المتطرفين من “النازيين الجدد”، بما عرف عنهم من دموية وتشدد، وذلك ما يقولون إنه يقف وراء تعجّل الكثيرين من مواطني المناطق الساحلية، بخاصة في مقاطعة خيرسون، من أجل طرح الانفصال عن أوكرانيا على استفتاء شعبي، تمهيداً لإعلان انضمامها في البداية إلى جمهورية دونيتسك المجاورة، بما قد يلحقها بالتبعية من طلب الانضمام إلى روسيا.
ولعل ذلك أيضاً ما قد يكون في صدارة أسباب احتمالات تمسك روسيا بهذه المناطق، وعدم الخروج منها مثلما سبق ووافقت على الخروج من المحيط القريب من كييف بعد تخليها عن فكرة الاستمرار في حصارها للعاصمة الأوكرانية، بل إن هناك مصادر روسية تقول “من المؤكد تماماً أن انسحاب قواتنا من الأراضي الأوكرانية التي تفرض سيطرتها عليها أمر غير وارد”.
انتصار روسيا
وعلى الرغم من أنه بات واضحاً أن العملية العسكرية ستستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعاً على ضوء استمرار الضغوط الغربية وإصرار الولايات المتحدة و”الناتو” على مواصلة الدعم العسكري والمادي لأوكرانيا، فإن الشك لا يساور أحداً في موسكو حول قدرات القوات الروسية على تنفيذ ما صار يتردد “على استحياء”، حول أن القوات الروسية في سبيلها إلى إحكام سيطرتها الكاملة على منطقة الدونباس وجنوب أوكرانيا.
ونقلت وكالة “نوفوستي” عن الجنرال رستم ميننيكايف، قائد المنطقة العسكرية المركزية، في اجتماع لاتحاد الصناعات الدفاعية بمنطقة سفيردلوفسك، تصريحات قال فيها، “منذ بداية المرحلة الثانية من العملية الخاصة، تتمثل إحدى مهام الجيش الروسي في بسط سيطرته الكاملة على دونباس وجنوب أوكرانيا. وهو ما سوف يكفل توفير ممر بري يربط المنطقة مع شبه جزيرة القرم، فيما سوف ينال من احتياجات المسائل المهمة الحيوية للقوات العسكرية الأوكرانية، وموانئ البحر الأسود التي يتم من خلالها تسليم المنتجات الزراعية والمعدنية إلى بلدان أخرى.
كما أن السيطرة على جنوب أوكرانيا ستكفل طريقة أخرى للوصول إلى ترانسنيستريا (منطقة ما وراء الدنيستر الموالية لروسيا) التي أعلنت انفصالها عن مولدوفا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتشهد كثيراً من حالات اضطهاد السكان الناطقين بالروسية.
فصل أوكرانيا عن البحر الأسود
كانت بعض المصادر الروسية، منها الرسمية، قد اعترفت ضمناً بقصور كثير من وسائل الإعلام في تغطية ما يدور من معارك ومواجهات مع القوات الأوكرانية، لكنها سرعان ما عادت إلى التركيز على تغيير القوات المسلحة الروسية لما سبق واتبعته من تكتيك في إطار ضرورة التكيف مع المتغيرات من أجل تحقيق ما أعلنته موسكو الرسمية من ثوابت وأهداف “العملية العسكرية الخاصة”.
ونقلت كالة “نوفوستي” ما صدر عن وزارة الدفاع الروسية من بيانات تقول إن “التفوق التقني للجيش الروسي في البر والبحر والجو أصبح واضحاً”. كما نقلت عن دينيس بوشيلين، رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية المعترف بها من جانب موسكو، ما قاله حول
ضرورة أن تصل العملية الخاصة إلى نهايتها المنطقية بنجاح، ويقينه من استكمال جميع المهام المعينة.
وكان دينيس بوشلين قد أشار إلى طلب إقليم روزوفسكي في مقاطعة زابوروجيه الانضمام إلى جمهورية دونيتسك. ومن المعروف أن جنوب أوكرانيا يتكون من خمس مقاطعات هي خيرسون، وأوديسا، ونيكولايف، وزابوروجيه، ودنيبروبتروفسك.
وأضاف بوشيلين أن “قواتنا موجودة الآن في ثلاث من هذه المقاطعات، وتسيطر بشكل كامل فقط على منطقة خيرسون. كما أن مصير زابوروجيه ومنطقة دنيبروبتروفسك يرتبط ارتباطاً مباشراً باستكمال التحرير الكامل لدونباس، أي هزيمة مجموعة دونيتسك للقوات المسلحة الأوكرانية”.
مقاطعة أوديسا
وأشار رئيس جمهورية دونيتسك إلى احتمالات تنفيذ عملية منفصلة تستهدف المضي إلى ما هو أبعد من نيكولاييف في اتجاه الغرب، صوب مقاطعة أوديسا، ومنها إلى الحدود مع ترانسنيستريا ومولدوفا. ذلك هو الجنوب الأوكراني الذي تعتبره الجمهوريات المعترف بها من جانب موسكو جزءاً من نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، التي تضم عدة مقاطعات أخرى، بما في ذلك خاركوف، الواقعة في الشمال الشرقي، والتي تقترب القوات الروسية من الوصول إليها، بحسب مصادر روسية.
المرحلة الثالثة للحرب
وخلص المراقبون والمسؤولون في الجنوب الأوكراني من الموالين لموسكو إلى أنه في حال فرض السيطرة على جنوب أوكرانيا، بوصفه هدفاً للمرحلة الثانية، فإن المرحلة الثالثة تبدو لا مفر منها، بالنظر لما سوف يتبع ذلك من إحكام السيطرة على نوفوروسيا بأكملها.
وفي إطار مثل هذا الطرح الذي يتسق على ما يبدو في الكثير من جوانبه مع المنطق، وما سبق أن طرحته موسكو من تحذيرات واحتمالات، يواصل المراقبون في موسكو توقعاتهم حول ما يمكن أن يتبع ذلك من خطوات تستند في معظمها إلى ما يرتكبه النظام الأوكراني من أخطاء تثير الرعب والذعر في نفوس كثير من الأوكرانيين، بحسب
تقديرات مصادر روسية، بل إن هناك من يتوقع احتمالات انهيار أوكرانيا على هذا النحو، بعد سقوط مناطق الجنوب.
ومن المنظور ذاته أيضاً يتوقع آخرون مثل هذا الانهيار “حتى دون انتظار استسلام خاركوف والسيطرة على نوفوروسيا بأكملها”، وذلك بحسب تقديراتهم، “لأن فقدان الجنوب يحرم أوكرانيا من فرص وجودها كدولة مكتفية ذاتياً (يجب عدم الخلط بينها وبين الدولة القائمة). وهو ما سوف تفتقد معه فرص الوصول إلى الموانئ، أي فرصة التصدير، ومعظم الإمكانات الاقتصادية الأخرى”.
الشرق والغرب
ويتوقع مراقبون أن تمضي موسكو إلى ما هو أبعد بمواصلة العمل من أجل قطع الاتصالات بين شرق أوكرانيا والمناطق الواقعة في الغرب، إلى جانب ما بدأ الإعلام الرسمي الروسي يركز عليه، ويتمثل في قصف وتدمير السكك الحديدية التي تتدفق من خلالها الأسلحة والمساعدات العسكرية الغربية.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما قد يتحقق من قضاء على فصائل “النازيين الجدد” في شرق أوكرانيا، بعد الاستسلام المتوقع لكتيبة “آزوف” و”القطاع الأيمن” في مواقعها السابقة داخل أزوف ستال، فإن ذلك يمكن أن يسهم في تغيير حاد في مشاعر سكان الأراضي الأوكرانية، وزعزعة مواقع النخبة الحاكمة، واحتمالات ظهور عناصر جديدة في الأوساط المعارضة التي قد تأخذ على عاتقها محاولة إطاحة زيلينسكي من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في أوكرانيا، بما في ذلك وضعية الدولة، من خلال الانضمام إلى ما سبق ونادى به رئيس بيلاروس، ألكسندر لوكاشينكو، حول وحدة “الأسرة السلافية”.
ومن المعروف أن البلدان الثلاثة: روسيا وبيلاروس وأوكرانيا، كانت وراء قيام الاتحاد السوفياتي السابق في 1922، قبل مبادرة إنهاء وجود هذا الاتحاد، بإيعاز من رئيس أوكرانيا الأسبق، ليونيد كرافتشوك، الذي دعا إلى توقيع اتفاقيات “بيلوفجسكويه بوشا” في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1991.
هل يتحقق الحلم؟
ذلك كله هو ما تقف الولايات المتحدة له بالمرصاد. وجاءت الزيارة الأخيرة لوزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكين، ولويد أوستين، لتكشف عما يمكن أن تمضي إليه الولايات المتحدة وبريطانيا وبلدان “الناتو” من خطوات على طريق المزيد من الدعم العسكري، إلى جانب ما تضمره هذه الأوساط من مخططات وسيناريوهات من أجل اتهام روسيا باستخدام أسلحة دمار شامل (كيماوية أو بيولوجية أو نووية).
وفي هذا الصدد، نقلت وكالة “نوفوستي” ما قاله إيغور كيريلوف، رئيس قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي، حول إنه “تم تطوير مثل هذه المخططات بالفعل، وهي رد فعل على نجاح روسيا في تنفيذ العملية العسكرية الخاصة”، فضلاً عن تأكيده أن “وزارة الدفاع لديها معلومات تفيد باستعداد الولايات المتحدة لاستفزازات في أوكرانيا تستهدف اتهام روسيا باستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية مع وقوع إصابات بين السكان، أو عن التخريب الذي قامت به روسيا، على سبيل المثال، في المنشآت الكيماوية والبيولوجية بخاركوف وكييف، وأيضاً في محطة الطاقة الذرية في زابوروجيه”.
وبحسب ما أشار كيريلوف، فإن من الممكن “عدم استبعاد الهجمات على مواقع تخزين النفايات المشعة”. كما أوضح كذلك أن “لدى وزارة الدفاع وثيقة تؤكد الحالة الحرجة لمنشآت التخزين، ووقائع اختلاس الأموال التي خصصها الاتحاد الأوروبي لصيانة هذه المنشآت”، فضلاً عن الاستخدامات المحدودة “لأسلحة الدمار الشامل بكميات صغيرة لقمع الإرادة والقدرة على المقاومة في إطار حل مهمة عملياتية محددة” قال إنها كانت مطروحة للتطبيق في مصنع ماريوبول “آزوف ستال”، لكن الأمر الذي أصدره بوتين بإلغاء اقتحام المصنع حال دون تنفيذ هذا المخطط.
مفاوضات للحسم العسكري
مؤشرات كثيرة تقول إن الجانب الأوكراني لم يعد بحاجة إلى مفاوضات يحاول كثير من الأطراف الدولية أن تكون سبيلاً لنزع فتيل الحرب الدائرة لما يزيد على الشهرين.
فبينما أعلنت موسكو عن توقف هذه المفاوضات لأسباب تعود إلى “مماطلة” الجانب الأوكراني، وقال لافروف، وزير الخارجية الروسية، إنه لم يعد بحاجة إلى هذه المفاوضات، تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها الإصرار على ضرورة حسم الموقف عسكرياً، في حين تتابع تكثيف إمداداتها من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا.
وكان بلينكن وأوستين أكدا ذلك خلال زيارتهما الأخيرة إلى كييف. ولعل مراجعة سريعة لتصريحات رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، وكثير من القيادات الغربية، ومنها جوزيب بوريل، المفوض السياسي للاتحاد الأوروبي، التي كشفت عن الإصرار على ضرورة حسم القضية عسكرياً، تقول إن النهاية لا تزال بعيدة، وذلك ما تدركه موسكو وتعمل من أجل مواجهته بمزيد من الإصرار على تنفيذ ما سبق وأعلنت عنه في مستهل حملتها العسكرية في فبرايرالماضي.
وفي هذا الصدد، كشفت وزارة الدفاع الروسية عن التحول إلى تبني القوات المسلحة تدمير كل ما يرد من أسلحة ومعدات عسكرية من البلدان الغربية إلى أوكرانيا، فضلاً عن تحذيرها البلدان التي تواصل إرسال مثل هذه الشحنات العسكرية.وكانت بريطانيا في صدارة الدول التي تلقت تحذيرات موسكو واعتبارها طرفاً مباشراً في الحرب، بما سوف يتبع ذلك من احتمالات تحولها إلى هدف ستتعامل معه القوات الروسية. ولمزيد من تأكيد جديتها في هذا الصدد، نشرت وزارة الدفاع الروسية شريط فيديو يظهر إطلاق 4 صواريخ “كاليبر” مجنحة من البحر الأسود باتجاه منشآت البنية التحتية العسكرية الأوكرانية. وفي بيانها الصادر بهذا الشأن، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن “صواريخ بحرية بعيدة المدى من طراز “كاليبر” دمرت حظائر تحتوي على دفعة كبيرة من الأسلحة والذخائر الأجنبية التي سلمتها الولايات المتحدة ودول أوروبية للقوات الأوكرانية، بما يعني أنه لا يزال هناك فصول أخرى للقصة.